في عالم كرة القدم، لا تقتصر البطولات الكبرى على اللاعبين فقط، بل يُصنع المجد الحقيقي من على الخطوط، حيث يقف مدرب يمتلك الشجاعة والرؤية والإيمان.
وإن كان هناك اسم اختصر هذه المعادلة في السنوات الأخيرة، فهو وليد الركراكي، المدرب المغربي الذي فجّر طاقات الأسود وأوصلهم إلى المجد العالمي.
من لاعب متواضع إلى مدرب استثنائي، قصة الركراكي تحمل في طياتها روح الوطن، ودهاء الخطط، وصدق العاطفة.
فمن هو الرجل الذي أعاد للمغاربة إيمانهم بقدرتهم على الحُلم؟
البدايات: من الدفاع إلى الدكة
ولد وليد الركراكي في 23 سبتمبر 1975 في كوربياي بفرنسا لأبوين مغربيين مهاجرين. لعب كمدافع أيمن لأندية فرنسية مثل تولوز، أجاكسيو، وراسينغ باريس، ومثّل المنتخب المغربي في أكثر من 40 مباراة، وشارك في كأس إفريقيا 2004 التي وصل فيها “الأسود” إلى النهائي.
ورغم أن مسيرته كلاعب لم تحفل بالنجومية، إلا أن من يعرفون الركراكي منذ ذلك الوقت لاحظوا فيه صفات القائد:
- هدوء تحت الضغط
- شخصية صلبة
- تحليل تكتيكي ممتاز
وكان من الواضح أن مستقبله الحقيقي سيكون خارج الملعب… على الخط الجانبي.
الانطلاقة التدريبية: البداية مع الفتح الرباطي
بدأ الركراكي مسيرته كمدرب مساعد للمنتخب المغربي سنة 2012، ثم تولى تدريب الفتح الرباطي عام 2014، وهناك بدأ يُظهر لمحات من فلسفته التدريبية:
- كرة قدم منظمة
- انضباط تكتيكي
- ثقة في اللاعبين المحليين
وقاد الفريق للتتويج بلقب الدوري المغربي لأول مرة في تاريخه عام 2016، في إنجاز عدّه كثيرون نتيجة غير متوقعة، لكنها كانت البداية.
محطة الدحيل… ثم العودة الأقوى
في 2020، انتقل لتدريب نادي الدحيل القطري، وفاز معهم بلقب الدوري المحلي، لكن التجربة لم تدم طويلًا. عاد إلى المغرب ليقود الوداد الرياضي في 2021، وهناك جاءت القفزة الكبرى:
- فاز بلقب الدوري المغربي
- توج بلقب دوري أبطال إفريقيا 2022 بعد الانتصار على الأهلي المصري
- أصبح أول مدرب مغربي يُتوج باللقب منذ 1997
بأداء منظم وروح قتالية، بدأ الجمهور يردد: “الركراكي غير كل شيء في عقلية اللاعبين.”
مدرب المنتخب المغربي: القرار المفاجئ والرهان الصعب
في أغسطس 2022، عيّن الاتحاد المغربي وليد الركراكي مدربًا للمنتخب الأول، خلفًا للبوسني وحيد خليلوزيتش.
جاء القرار قبل أقل من 3 أشهر من انطلاق كأس العالم 2022 في قطر، ما أثار جدلًا واسعًا:
- هل الوقت كافٍ؟
- هل ينجح مدرب محلي في السيطرة على نجوم محترفين؟
- هل يمتلك الخبرة الكافية؟
لكن الركراكي كان لديه شيء واحد لا يُشترى: الثقة بالنفس وباللاعب المغربي.
كأس العالم 2022: المعجزة المغربية
في قطر، كتب وليد الركراكي فصلًا خالدًا في تاريخ كرة القدم العربية والإفريقية:
- فاز على بلجيكا 2-0
- تصدر مجموعة ضمت كرواتيا وبلجيكا وكندا
- أقصى إسبانيا في ثمن النهائي بركلات الترجيح
- أطاح بالبرتغال في ربع النهائي
- قاد المغرب ليصبح أول منتخب إفريقي وعربي يبلغ نصف نهائي كأس العالم
ولم تكن النتائج فقط هي المبهرة، بل الأداء:
- دفاع صلب
- حماس لا يُقهر
- توازن تكتيكي استثنائي
- وحدة بين اللاعبين والجماهير
تصرفاته على الخط، كلماته الحماسية، ودموعه بعد المباريات جعلت منه رمزًا وطنيًا وشعبيًا، بل وأصبح يُلقب بـ “المعلم“.
فلسفة الركراكي: أكثر من مجرد مدرب
نجاح الركراكي لا يعود فقط إلى الخطط التكتيكية، بل إلى فكر متكامل:
- الثقة في اللاعب المحلي والمحترف معًا
- الروح الجماعية بدل الفردية
- التركيز على الانضباط والتواضع
- احترام الخصم، لكن دون خوف
- إدماج الجمهور في “الحلم الوطني”
قال بعد مباراة البرتغال:
“قلنا إننا سنُفاجئ العالم، وفعلنا. لا شيء مستحيل عندما نؤمن بأنفسنا.”
ما بعد المونديال: الرؤية للمستقبل
بعد المونديال، تعرّض الركراكي لبعض الانتقادات، خصوصًا بعد الإقصاء من كأس إفريقيا 2024 في دور الـ16 على يد جنوب إفريقيا.
لكن الاتحاد المغربي جدّد ثقته فيه، لأن المشروع الذي يقوده لا يقتصر على بطولة واحدة.
يُشرف حاليًا على:
- تجديد دماء المنتخب
- دمج لاعبين جدد من أوروبا
- التحضير لكأس العالم 2026
- تطوير أسلوب لعب أكثر هجومية
ولا يزال يحظى بدعم واسع من الجماهير المغربية، التي تعتبره رمزًا للأمل الكروي.
الخاتمة: وليد الركراكي… قصة رجل غير خارطة الكرة الإفريقية
في وقت كانت فيه الثقة بالمدرب المحلي منخفضة، جاء الركراكي ليُثبت أن “ابن البلد” يستطيع أن يتفوق على أكبر الأسماء العالمية.
بعقلية أوروبية، وروح مغربية أصيلة، أعاد الحلم لجماهير بلاده، وكسر الحاجز النفسي لدى لاعبيه، وكتب اسمه في كتب التاريخ من أوسع الأبواب.
سواء استمر في تدريب المغرب لعقود، أو رحل غدًا، فإن الركراكي أعاد تعريف ما يعنيه أن تكون مدربًا وطنيًا ناجحًا.